حول الأوضاع الأخيرة في تركيا

رشيد فندي

الأوضاع السياسية التي ترتبت في تركيا مؤخرا” تحمل اكثر من معنى ،وهي ليست وليدة عوامل سياسية آنية ولا هي وليدة اليوم والأمس، بل ترجع في جذورها الىابعد من ذلك ،فالجمهورية التركية الحالية، انما تأسست على انقاض الأمبراطورية العثمانية التي حكمت المنطقة بأسم الخلافة الأسلامية لمدة خمسة قرون، 

والتي كانت تضم اراضي شاسعة يعيش عليها العديد من الشعوب والقوميات ،تلك الأمبراطورية التي خسرت الحرب العالمية الأولى ،عندما اقحمت نفسها في الصراع الأستعماري الذي نشب بين الدول الكبرى في اوروبا وامريكا، وبذلك خسرت كل ممتلكاتها واراضيها، وتأسست الجمهورية الحالية على ايدي الجنرال كمال اتاتورك بعد تلك الحرب، وقد جهد الحكام الترك بدأ” من اتاتورك وحتى قبل سنين، الى محاولة ابعاد تركيا عن محيطها الأسلامي وتقريبها من الغرب المتمثل في اوروبا وامريكا، وقد تحولت بعض تلك المحاولات الى تطبيقات، وقدتمثلت في بعض الأمور ومنها، تبديل الحروف العربية الأسلامية بالحروف اللاتينية ،وبذلك ادارت ظهرها لكل تراث الدولة العثمانية المكتوب بالحروف العربية، والوثائق والكتب الرسمية لتلك الدولة،الذي لايمكن عدّه بالأوراق والصفحات، بل يقدّر بالأطنان، وكذلك منع الحجاب وشدّالشعر بالمناديل بالنسبة للنساء، وجعل العطلة الأسبوعية في يوم الأحد كالأوربيين بدلا”من يوم الجمعة الأسلامي، و..الخ .
ولكن يجب ان لايغيب عن البال ،بأن المجتمع التركي، كان ولايزال مجتمعا” شرقيا”الى ابعد الحدود، سواء بالأكثرية الساحقة من شعبه الذي يعتنق الأسلام، او بمعظم اراضيه التي تقع في قارة آسيا والتي تبلغ نسبتها 97% من مجمل الأراضي التركية، اي ان وجود الأراضي التركية في قارة اوروبا ،(استانبول) وماجاورها، لاتزيد عن 3% ،وهي ما كانت تسمى بمقاطعة (روميلي) في اوان الدولة العثمانية. او سواء بتاريخه في قدوم اجدادهم من آسيا الوسطى، قبل بضعة قرون ، وليس من اوروبا الوسطى ..
ان هذا التاريخ الشرقي السحيق لتركيا والجو النفسي الذي نشأعليه أجدادهم، لايمكن محوه بسهولة، لذا برز التضاد النفسي والخلاف السياسي بعد فترة من تشكيل الجمهورية، وأخذ الصراع يزداد عقدا” بعد آخر، بين المتطلعين بسرعة نحو العالم الغربي من الأحزاب القومية التي تريد ان تتخلص من ماضيها الشرقي، وبين الأحزاب ذات الطابع الأسلامي والناس من ذوي النزعات الشرقية القومية التقليدية، الى جانب الأتجاهات اليسارية في المجتمع التركي، والذين لايريدون التوجه نحو المجتمعات الغربية بكل يسر وسهولة، وقد اشتد ساعد الأتجاه الثاني في العقدين الأخيرين واخذوايسجلون الأنتصارات في الأنتخابات العامة والجزئية التي تجري في تركيا ،مرتكنين الى واقعهم الفعلي، في كونهم شعباً شرقياً من الصعب انتزاعه من ماضيه وتاريخه ،ومن جهة اخرى، فشلت الأحزاب المتطرفة حتى الآن من تسجيل نقطة لصالح انضمام تركيا الى المجتمع الأوروبي وتأقلمه معه، ولا في تحسين علاقات تركيا مع جيرانها الذين هم خصومها التقليديون في عين الوقت ،مثل اليونان وبلغاريا وروسيا وارمينيا وايران وسوريا . وبذلك فقدت قطاعات واسعة من الشعب التركي الثقة بهم .
لذا( حسب رأيي) ان الصراع محتدم بين الطرفين السياسيين ،واذا كانت الأحزاب القومية، فضلاً عن دعم الجنرالات لها ،قد نجحت مؤخرا” في سد الطريق على (عبدالله غل) لتسنم منصب رئاسة الجمهورية، عن طريق عدم حضورها اجتماع البرلمان، لكسر النصاب القانوني، فسيخرج عبدالله غل آخر ليتسلم ذلك المنصب، وحتى اذا جرت الأنتخابات البرلمانية، سواء كانت مبكرة، أم في وقتها الأعتيادي، فأن حزب العدالة والتنمية الذي يرأس الآن الحكومة التركية، سيفوز في الأنتخابات (حسب رأيي) سواء زاد رصيده عن الأنتخابات الماضية او قل قليلا” ،لأن ميزان الشعب التركي اصبح يميل لذلك الأتجاه ،ولقد سبق للجنرالات ان وقفوا ضد احزاب اسلامية اخرى قبل الآن، وكانت قد فازت في الأنتخابات ايضا”، مثل حزب الرفاه وحزب الفضيلة ولكنهم بعد كل محاربة وحل كانوا يشكلون حزبا”بأسم جديد ويفوزون في الأنتخابات،لأن الشعب التركي أصبح يملّ منالأتجاه القومي المتطرف،الذي لم يستطع انجاز الكثير له.. لأن مسح عراقة الماضي وأزالة عبق التاريخ من قلب اي شعب ليسا بالأمر الهيّن ،وأفضل مثال لذلك ،هو التجربة السوفياتية ،التي حكمت مجموعة من الشعوب بالقوة لمدة ثمانين عاما”،ولكن ما ان فلّ حديد الحكم ووهن وأستكان ،حتى هبّت تلك الشعوب ودبّت للتخلص من الربقة الصارمة للحكم وأسست دولها القومية وهي لاتلوي على شئ، ومعلوم للجميع ماكان عليه الحكم الشيوعي من صرامة وكبت للحريات الفردية والدينية ، وقيامه بتدريس درس في المدارس لمدةعقود،يمكن ان يسمى بعلم الألحاد ،كما كان يتحدث عنه بعض الزملاء الذين كانوا يدرسون هناك، ورغم ذلك كله نرى ما عليه تلك الشعوب الآن من حبّ للروح القومية وأحياء للروح الدينية الأسلامية والمسيحية على حدّ سواء، الى درجة ان بعضالجمهوريات الصغيرة التابعة لروسيا نفسها، مثل (الشيشان) ادخلت نفسها في حمامات الدم، ثمنا” لذلك، وكذلك فتجربة (يوغوسلافيا) وتفككها عن بعضها ليست ببعيدة.. وآخر الأمثلة على ذلك هو (كوسوفو)….
امام الحكومة التركية الحالية والقادمة امران مهمان، لكي تكسب ثقة الشعب التركي وتكسب ثقة المجتمع الدولي ،الأمر الأول هو، اذا ارادت التقرب بجدّ من الأتحاد الأوروبي، فعليها ان تشيع الديمقراطية الحقيقية بين شعبها، وتعطي الأهمية لتطلعات جماهيرها، وأن تمنح الحقوق الثقافية والمدنية والقومية بشكل سلمي للشعب الكوردي في تركيا وتحل القضية الكوردية سلميا” ،والأمر الثاني،ان تحسّن علاقاتها مع جيرانها، حسب مبدأ الأحترام المتبادل ،ومن اولئك الجيران هو اقليم كوردستان العراق ،الذي يرنو بأبصاره الى مدّ يد الأخاء والتعاون المشترك الى الجميع

_____________________

نشرت في مجلة صوت الاخر

Comments are closed.