الأيام الأخيرة لثورة ايلول

رشيد فندي

مرت هذه الأيام ذكرى اندلاع ثورة ايلول المجيدة في كوردستان في عام 1961، تلك الثورة العظمى التي ينظر اليها ابناء شعب كوردستان في جميع اصقاعها بأجلال واكبار لا نظير لهما، لما حققته من أهداف سياسية وعسكرية وثقافية ولما حفرته في ذاكرة التاريخ من تغيير أجتماعي هائل في بنية المجتمع الكوردي..

كانت تلك الثورة بقيادة (مصطفى البارزاني) الذي حيَر القادة العسكريين في العراق ودول الجوار، لما كان يتصف به من صفات قيادية عسكرية حربية لم تجتمع في غيره،حيث افشل بقوة سواعد البيشمركة جميع الخطط العسكرية التي كان يضعها جنرالات الحرب في غرف القيادات العسكرية، ولم تنفع اسراب الطائرات الحربية القديمة منها والحديثة وطوابير الدبابات وكتائبالمدفعية الثقيلة وفيالق الجيش والمرتزقة في قهر ارادة شعب كوردستان الفولاذية ،وأصبحت كلمة البيشمركة وكلمة البارزاني ترعبان الأعداء، في الوقت الذي ذاعت فيهما تلكما الكلمتان في ارجاء الأرض، واصبحتا لصيقتين بالشعب الكوردي، وهوية شفوية للتعريف به.. ولمّا لم تنفع الخطط العسكرية للجنرالات، ولم ينفع نسج نسيج الأغتيالات التي دأبت عليها الأجهزة المخابراتية للنظام، حينها عمدت للمؤامرات السياسية،عندما أيقنت بأن هذه الثورة خرجت عن الطوق وانّ هذا القائد لايمكن تحييده ..كانت المؤامرة الكبرى هي تلك التي رسمها صدام حسين مع شاه ايران (محمد رضا بهلوي) وبترتيب ودعم ومباركة من القوى الكبرى وقوى اقليمية وعربية للأنقضاض على الثورةالكوردية ،حيث تجلّت تلك المؤامرة في ما يسمى بأتفاقية الجزائر (مؤامرة الجزائر المشؤومة) بين تلك الأطراف .. كان صباح ذلك اليوم، يوم 6 آذار1975، صباحا”عاديا” بالنسبة لنا، نحن العاملين في صفوف الثورة وفي اذاعة صوت كوردستان العراق، في الأمانة العامة للأعلام والثقافة والشباب، وأقصد بالصباح العادي، اننا نهضنا صباح ذلك اليوم حيث كنّا نسكن (قصر السلام) المطلّ على مدينة (جومان) وتوجه كل واحد منا الى عمله، بين محرر ومذيع ومعدّ لبرنامج أذاعي ومترجم للأخبار وفني (تقني) ..الخ . كما كان الصباح العادي يتضمن كالعادة جولات للطائرات الحربية للنظام البعثي فوق المنطقة ،حيث تصدر أزيزا” قويا” مصحوبا” بقصف جوي هنا وهناك، مع اصوات لمدافع ضدّ الجو للثورة وهي تتصدى لتلك الطائرات بأمكانياتها المتواضعة ،في حوض جومان وناو بردان، صعودا”الى رايات وحاج عمران ونزولا” الى كلاله وحوض راوندوز ،حيث تزداد حرارة المعارك ويقوى صوت المدفعية للطرفين وهي تدكّ مواقع بعضها البعض.. كانت القوات الحكومية قد احتلت سهل ديانا وهي تحاول اقتحام المضيق الكائن بين جبلي زوزك وهندرين الأسطوريين اللذين كانا بعبعين مخيفين لتلك القوات ،وكانا يقفان منذ بداية ثورة ايلول كالسدّين الرابضين في طريقها ،كما كانت القوات الحكومية تحاول الألتفاف عليهماوالوصول الى كلالة وناوبردان وجومان، حيث تقع فيهما اهم مراكز الثورة، بينما كان (البارزاني) يربض كالنسر على سفح الجبل المقابل لـ (حاج عمران) ويحلّق عاليا” على مختلف الجبهات والمراكز.. وامام القوات الحكومية ،كان البيشمركة يقفون كالأبطال الأسطوريين متخندقين في الجبلين وما وراء الجبلين ،وهم يدفعون العدوّ بكل قوة وبسالة الى الوراء في كل مرة، رغم الفارق الهائل في نوعية السلاح وكتل العتاد المتوفرة للعدو التي تزوده بها بعض الدول الكبرى، والتي تشتريها الحكومة العراقية بثمن النفط المستخرج من كوردستان، ولكن انّى للخوف ان يدبّ في قلوب البيشمركة رغم سلاحه المتواضع، أليسوا بيشمركة كوردستان؟؟ نعم كان ذلك الصباح عاديا” في البداية، وعند الظهر سمع احد زملائنا خبرا” مريبا” من احدى الأذاعات، بحصول اتفاق بين شاه ايران وصدام حسين في مؤتمر الأوبك (الدول المصدرة للنفط) في الجزائر العاصمة، وبحضور الرئيس الجزائري ( هواري بو مدين).. في البداية لم يكن الخبر مثيرا”لنا، اذ قال زميل آخر،ان هذا الأتفاق لن يؤثر علينا، فما لنا وللدول المصدرة للنفط؟ وحدثت بعض الوساوس في قلوبنا حيث أوجسنا خيفة من الأمر، فطلبنا من زميلنا (دنصا الحريري) الذي كان يعمل معنا في القسم السرياني في الأذاعة ،بأن يتصل بأخيه (فرنسو الحريري) ،حيث كان يعمل في أحد الأجهزة الحساسة للثورة للتأكد من الوضع ،فأجابه (فرنسو حريري)، بكلام مقتضب ومعبّر بأنه (حدث اتفاق بين الطرفين فعلا” ،وانّ الأتفاق ليس في صالحنا..) حينها ادركنا بوجود مؤامرة ضد الثورة الكوردية .. في الأيام التالية اتضحت الصورة بشكل اكثر، بأن شاه ايران تآمر ضدنا وانه سيكفّ عن مساعدة الثورة بالغذاء والدواء وسيوصد الباب علينا من الخلف لمنع المساعدات الأنسانية الدوليةلقهر الثورة الكوردية ،وان الألاف من العوائل الكوردية الملتجئة الى ايران يمكن ان تبقى هناك بصفة لاجئين او تعود للعراق، وذات الحالة بالنسبة لنا، عناصر الثورة، سنخيّر بين لجوئنا الى ايران او العودة للعراق وتسليم أنفسنا للحكومة البعثية التي كانت الحرب سجالا” بيننا وبينهم حتى ذلك الوقت .. بعد اعلان الأتفاقية بين طرفي المؤامرة في يوم (6- 3) اشتدّ وطيس المعارك في كوردستان ،وخصوصا” في حوض راوندوز، اذ عمدت القوات الحكومية الى محاولة أقتحام الوادي الذي يقع بين الجبلين وصولا” الى منطقة القيادة ،واستغلت القوات الحكومية فرصة اعلان المؤامرة، على امل انهيار معنويات البيشمركة، وسهولة الوصول الى أهدافها . ولكن العكس كان هو الصحيح، اذ انالمعارك التي حدثت والبطولات التى سطّرها البيشمركة في تلك الأيام، لم يكن لها مثيل، حيث استمرت المعارك من يوم (6-3) ولمدة اسبوع، وتمّ وقف اطلاق النار في يوم (13-3) بضغط من اطراف المؤامرة، حيث كان من المفترض عدم الهجوم على كوردستان اعتبارا” من يوم (6-3) ولغاية نهاية شهر آذار ،لكي يحدد الثوار مصيرهم.. في تلك الأيام حدثت اجتماعات في القيادة، وتوجّه قائد الثورة (البارزاني) الى (طهران) لأستجلاء الخبر والوقوف على حجم المؤامرة وتفاصيلها، وعندما وقف على حجمها وأستحالة الضغط على (الشاه) للتراجع ،أذ لم يتراجع الشاه عن المؤامرة،خصوصا” وان (صدام حسين) كان قد وقع على ورقة بيضاء، لكي يملي فيها الشاه ما شاء من شروط، مقابل قطع الطريق من الخلف على المساعدات التي ترد للثورة الكوردية .. رجع البارزاني الى كوردستان واجتمع مع قيادة الثورة ، وبدورهم اجتمع اعضاء القيادة،كلّ مع مرؤوسيه لتوضيحالصورة لهم .. كان الشهيد (دارا توفيق) عضو اللجنة المركزية للحزب امينا”عاما” للأعلام والثقافة والشباب (بمثابة وزير الثقافة داخل الثورة)، فأجتمع بنا تحت اشجار البلوط الباسقة في باحة اذاعة صوت كوردستان ،وكان عددنا قد قلّ،أذ بدأ البعض من زملائنا منذ ايام للألتحاق بعوائلهم في ايران لتحديد مصيرهم.. تحدث الشهيد (دارا) بقلب منكسر وخاطر جريح عن مصير الثورة وموقف كل الأطراف المشاركة في المؤامرة ،وأوصانا بالتخلص من الأوراق والأضابير الزائدة عن الحاجة ،ومن ثمّ تحديد مصيرنا، باللجوء الى ايران او الذهاب لطرف الحكومة العراقية، وبالرغم من اننا ناقشناه فيمسائل كثيرة، لكنها كانت دون جدوى،حينها ادركنا حجم المؤامرة على الثورة، وأخذ عدد الزملاء يتناقص يوما” بعد آخر، ولم نبق الاّ بضعة اشخاص، للأستمرار في البثّ الأذاعي، الى يوم 20/3/1975، وفي عصر ذلك اليوم تمّ تبليغنا بأن هذه الليلة ،ستكون آخر ليلة للأذاعة، حيث سيتوقف البث في اليوم التالي.. في ليلة 20/21-3-1975،اي ليلة نوروز، كان لنا آخر لقاء مع مستمعينا الكرام
في ارجاء كوردستان ،وبما انها الليلة الأخيرة، اعددنا برامج خاصة لتلك الليلة، تتضمن رفع المعنويات وعدم الأستكانة والرضوخ للعدوّ، وقراءة اشعار قومية كوردية، وبان الأذاعة ستتوقف لأسباب فنية لبعض الوقت، ومن بعدها سنستأنف من جديد .. وفي صباح اليوم التالي، قام الفنيون بتفكيك أجهزة الأذاعة وأعمدة البثّ،اما نحن فقد غادرنا اذاعة صوت كوردستان العراق وقررنا التوجه الى ايران.. كان يوم المغادرة هو يوم نوروز ،حيث تركنا كلّ امتعتنا، ماعدا حقيبة صغيرة نستطيع حملها، ولما لم تكن هناك سيارات أجرة في ذلك اليوم التعيس لكي تقلّنا ،لذا بدأنا نحن ثلاثة اصدقاء منالباقين ،بالسير مشيا” من (جومان) وباتجاه (حاج عمران)، وكان فعلا” يوما” تعيسا” وكئيبا”، اذ رأينا الآلاف من امثالنا في الطريق، من النساء والأطفال والرجال والبيشمركة، وهم يتوجهون صوب الحدود.. وفي طريقنا وصلنا الى (بابكراوه)،حيث مقر الأستاذ (صالح اليوسفي)،عضو المكتب السياسي وأمين عام العدل والأوقاف، والذي كان رئيسا” لأتحاد الأدباء الكورد، فأردت القاء السلام عليه وتوديعه ،اذ انني كنت حينذاك رئيسا” لفرع دهوك لأتحاد الأدباء الكورد وعضوا”في الهيئة الأدارية العليا للأتحاد.. فلما دخلت، رأيت مقره في فوضى وعبث، وما تبقى من ناس كانوا يتهيأون للمغادرة اسوة بنا، فلما لمحني أشار اليّ بالأقتراب، وقال لي: (قرروا انتم ايضا” ماذا تفعلون)، فقلت له، يا استاذ لقد قررنا اللجوء الى ايران!! فقال لي (انّ حكومة الشاه أسوأ من حكومة صدام !!) ثم قال ( قاتل الله الذين تسببوا في هذه الكارثة !! كيف لي ان التجئ الى حكومة الشاه ..) ثم ودعته وخرجت من غرفته ،وأخذنا نحن الثلاثة طريقنا صوب الحدود من جديد، وكان ذاك آخر لقاء لي معه، اذ لم ازره طوال السنوات التي كان فيها في بغداد لحين استشهاده في عام 1981، على يد مخابرات صدام .. وقرب رايات وقفت قربنا سيارة (لاندروفر) مليئة على آخرها، ولما اقتربنا منها ،شاهدنا الشهيد المرحوم (دارا توفيق) وقد وقف بعد ان عرفنا ، فقال لنا ،(جدوا لكم مكانا” فيالسيارة) ولكن لم يكن هناك اي مكان ،لذا اعتذرنا عن الصعود ،وقلنا له بأننا سنكمل الطريق مشيا”، وكانت تلك هي المرة الأخيرة التي أشاهده فيها ايضا” ،اذ لم اره في بغداد بعد ذلك.. ولدى غروب الشمس وصلنا نقطة الحدود قرب (حاج عمران)، وكنّا قد بدأنا المسير منذ الصباح، فعبرنا الحدود في الليل واصبحنا داخل ايران .. اما البارزاني العظيم، فيقال انه بقي الى يوم 29/3/1975، وكان من أواخر من دخلوا الى ايران، اسوة بما فعله كقائد اصيل عندما عبروا نهر (آراس) في عام 1947 ،فكان ان عبر المقاتلون حينذاك، بينما عبر هو ضمن الكوكبة الأخيرة .. كان الأتفاق بين شاه ايران وبين صدام ،ان يكون وقف اطلاق النار ساريا”وان لايتقدم الجيش العراقي الى مناطق الثورة لغاية نهاية شهر آذارمن ذلك العام ،حتى يحدد الثوار مصيرهم بين اللجوء الى ايران او اللجوء لطرف الحكومة العراقية. كما قيل ان البارزاني ،وصل نقطة الحدود في (حاج عمران) في ذلك اليوم ،وقبل عبوره ،نظر الى كوردستان العراق النظرة الأخيرة وقال ،(ورغم كلّ هذا لن اتنازل عن كركوك

________________________-

نشرت في مجلة صوت الاخر

Comments are closed.