رشيد فندي
مرت قبل اسابيع، الذكريات المرّة والأليمة لعمليات الأنفال التي جرت في كوردستان بين عامي1987 و1988 ،والتي تعتبر (حسب رأيي) اكثر الأعمال الوحشية التي أرتكبها النظام السابق ضدّ الشعب الكوردي ،لا بل ضدّ الأنسانية جمعاء ،فالأمر لا يقف عند حدود الجريمة النكراء بأبادة (182) الف كوردي برئ،
بل يتعدى الأمرذلك ويصل الى تهديم أكثر من ( 4500 ) قرية كوردية ومحوها من الوجود، ثمّ لمّ ما تبقى من سكانها من النساء والأطفال والشيوخ ورميهم في العراء بين الأشواك قرب (بحركة ) في اربيل ،من دون أي شئ ،لابيت ولا خيمة ولا قاعة ولا ظلّ ولا طعام ولا شراب ولا مأكل ولا ملبس ..الخ .
وللأنفال قصص طويلة لا يمكن جمعها في مقالة واحدة ولا في كتاب منفرد ،أذ ان لكل واحد من المؤنفلين الكورد قصصاً طويلة وعريضة وليست قصة واحدة ،وقد أشار الى ذلك رئيس النظام السابق في حينه ،عندما قال منتشيا” في أحدى جلساته ابّان الحرب العراقية الأيرانية ،بأن لكل عراقي قصة ،والحقيقة المرّة انّ لكل عراقي من العراقيين البؤساء عدة قصص من الآلام والفواجع وذرف الدموع .. لذا لانستطيع الأشارة مهما بلغنا مبلغا” من العجالة ،حتى الى بعض القصص ،ولكنها شذرات نذكرها في هذا المساق ،للعبرة وأستذكار الأيام المرّة ..
في احدى المرات وفي ثنايا عمليات الأنفال القبيحة الصيت ،تقدّم الجيش العراقي وقام بتطويق قرية من قرى كوردستان ،وكان الجيش مصحوبا”بالشفلات والبلدوزرات لتهديم تلك القرية وعدم أبقاء حجر على حجر ،فخرج جميع سكان القرية وأخلوا بيوتهم تنفيذا” لأمر الضابط المكلف بذلك .. وكما هو معلوم ،فأن الشعب الكوردي ،هو شعب يقدّس جميع الديانات ويحترم الجوامع والمساجد، وكان هناك مسجد في كلّ قرية كوردية ،وكان معظم تلك المساجد قد تمّ بناؤها من قبل أهالي القرى أنفسهم ،فيصرفون عليها الأموال ويدفعون زكاة أموالهم لعالم الدين في القرية ويخدمون المسجد بأنفسهم ،( انما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ) صدق الله العظيم .. أثناء ذلك تقدّم أمام مسجد القرية من الضابط وقال له :
– يا سيّدي هل تهدّمون المسجد أيضا” ؟
– نعم سنهدّم جميع مباني القرية !!
– ولكنّ المساجد هي بيوت الله ،فهل تهدّمون بيوت الله ؟
– نعم سنهدّمها ،وأذا كانت فعلا” بيوت الله ،فليأت الله للدفاع عن بيته !!
-معاذ الله ،معاذ الله ..
وتقدّمت الشفلات لتهديم المسجد ،فطارت أوراق القرآن الكريم وكتب الحديث الشريف والشريعة السمحاء في السماء بشكل لم يمارسه حتى هولاكو أثناء أحتلاله بغداد في سنة 1258 الميلادية ..
لقد غاب عن ذهن ذلك الضابط وسيّده الأكبر ،أنّ الله يُمهل ولا يَهمل،وأنّ صبر الله أوسع من صبرنا ،نحن عباده الجاهلين العجولين . نعم لقد ثأر الله لبيوته التي هُدمت وألقى بسيّد ذلك الضابط ذليلا” مرعوبا”في قفص الأتهام ينتظر مصيره الأسود ،كما ألقى بالضابط في هاوية التاريخ ،بحيث لايستحقّ منّا حتى السؤال عنه او ألقاء نظرة عليه ،بينما حوّل الله كوردستان من جديد الى بلاد عامرة زاهرة وتنامت قراها مرة اخرى ،وأبرز ما يراها الناظر في تلك القرى هي مساجدها ذات المنائر السامقة ومدارسها الواسعة ومستوصفاتها الحديثة ومشاريع المياه الصافية فيها وطرقها المعبّدة ..
وفي مرة أخرى خلال الأنفال ،تقدّم الجيش العراقي مصحوبا” بالمرتزقة الكورد ومزوّدا”بالشفلات والبلدوزرات الى قرية أخرى ،وأمر الضابط المسؤول،تلك المكائن بالبدءبتهديم دور القرية ،وعندما تقدّم (الشفل) نحو أحد البيوت ،قام كلب ذلك البيت بالهجوم على (الشفل) دونما طائل ،وكان أهل البيت قد أخلوه ،بينما بقي الكلب وهو الحارس الوفي للبيت ولأهله لحراسة البيت ،وبقي سائق الشفل لمدة من الوقت يحاول ان يهدّم البيت والكلب يهاجمه من كلّ طرف ،فلمّا راى الضابط ذلك الموقف ،نادى على بعض المرتزقة الكورد وقال لهم :
-هل ترون هذا الكلب ؟
-نعم نراه ياسيّدي ..
-أنّه أشرف منكم بمائة مرّة !!
-لماذا يا سيّدي ؟
-لأنّه يدافع عن بيته وأصحاب بيته ،بينما أنتم لاتملكون شعور هذا الكلب ،فتقومون بتهديم قراكم!!
!!؟؟
وأن كانت لي ثمة من كلمة أخيرة بصدد الأنفال ،فهي عبارة عن تقديم تحيّة حارة الى اهالي ( أربيل ) النجباء، الذين وقفوا موقفا” قوميا” وتاريخيا”وأنسانيا” فريدا” من أولئك البؤساء من المؤنفلين الذين رمتهم الحكومة العراقية بين الأشواك قرب ( بحركة ) دون اي شئ يملكونه .. ولا زال أهلنا من المؤنفلين في منطقة بهدينان يذكرون ذلك الموقف بكلّ فخر ومجد لأهالي أربيل الذين بادروا بشكل جماعي لمدّ يد المساعدة لهم بشكل منقطع النظير ،وكانوا يرسلون السيارات المحمّلة بأنواع الأغراض من أطعمة وأرزاق وأثاث منزلي ونقود وخيام وحتى مهود الأطفال الى جموع المؤنفلين قرب بحركة ،رغم أنف رجال النظام الذين كانوا يعرّضونهم في الطريق الى شتى المشكلات والعقبات عن طريق أقامة السيطرات على الطريق لكي لاتصل تلك الأحتياجات الضرورية للمؤنفلين ،ووصل الأمر لحدّ أنّ أحد مسؤولي النظام في كوردستان حينذاك ،قال في ندوة جماهيرية ( نعم اننا نمنع المساعدات عن أولئك المؤنفلين ،لأنّ تلك المساعدات ،أنقلبت الى ظاهرة سياسية !! لها معانيها !! ) وكأنني به وبأمثاله لايعرفون أنّ الأمر كله هو أمر سياسي وكأنهم يذيعون سرّا” دفينا” لديهم ..
على كلّ حال ،لقد سجّل أبناء اربيل النجباء ،موقفا” سياسيا”وأنسانيا”وقوميا نبيلا” لا ينساه أخوتهم المؤنفلون ابدا”
_________________________